إن البلاغة التي كرست نفسها للحصان والسيف هي المسئولة عن دمار العالم. إن أول من روض الحصان كان يخفي نيّته الشيطانية وهي غزو الجار وسلب القريب وإخضاع الضعيف، بل السيطرة على العالم. بعد ظهور الحصان غبن حق الحمار وصار مضربا للبلاهة والبلادة، ولكن في القرن العشرين، وبعد الخلاص من عهد الحصان، استعاد الحمار شيئا من مكانته فانتشرت جمعيات الحمار في كثير من بلدان أوروبا، وأنشئت النوادي باسمه، ومنه النادي الفرنسي الذي كان فرانسوا ميتران أحد أعضائه.
إن هذا المخلوق المحترم هو الذي طبق على نفسه المبدأ السامي الذي تتمناه الضمائر الصافية "من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته" وبما أن الطمع يناقض السمو ويعمل على تحطيمه، فإن هذا المبدأ سيظل خياليا، وإن آمن الناس أنه مبدأ يمنع الحروب والشقاق والصراع. إن ما في الإنسان يناقض هذا المبدأ الرفيع.
تنكر الإنسان لكل الخدمات التي قدمها الحمار. فحتى الحرب العالمية الثانية كان في حاجة لهذا المخلوق العبقري. فعندما كان الجنود يواجهون حقل ألغام كانوا يبحثون عن حمار يسير فيه ويسيرون خلفه، فكان يجوس خلال الحقل بهدوء ورزانة من دون أن يدوس على لغم، ويتبعونه ممسكين بذيله بصمت وخوف كأنه مارشال مهيب، يتبعونه بدقة ولا يجرؤون على أن يجوسوا في غير آثار حوافره. وبعد أن يجتازوا الحقل "يرفسونه" ساخرين منه. إن كل تكنولوجياتهم لم تغنهم عن هذا المخلوق، الذي قدم بلاغة القناعة والعطاء والعمل الصامت. . .
كان توفيق الحكيم موفقا عندما اختار الحمار ليكون صاحب الحكمة الوديعة الرزينة البعيدة عن الانتقام والثورة والغزو. لم يرو الحكيم عن حماره كلمة واحدة تدعو إلى العنف. كل أفكاره كانت سخرية من البلاغة الحديثة التي اتخذها الإنسان، بلاغة الحصان.
* حنا عبود: (البلاغة من الابتهال إلى العولمة)
#حناعبود
* اللوحة للفرنسي Guy Garnier