ظهرت بلاغة الثور وراحت تلعب لعبتها فتفننت في استعراض القوة ومزاياها، وكيف أن من لا منعة له يصبح مباحا لاعتداءات الآخرين. جسدت البلاغة القوة وصارت القوة وثنا يقود بني آدم إلى الحروب والــدمار. والجانب النبيل في الثور، الجانب الذي أنتج، مع الحمار والمواشي الأخرى، الحياة المادية، وملأ الأهراء خيرا، لم يذكره أحد، إلا القليل من أمثال هسيود الذي كرس قسما من كتابه "الأعمال والأيام" لطريقة الحراثة والاهتمام بالحيوانات التي هي أساس العيش والطمأنينة والسعادة. إن أي تقاعس يجعل الإنسان محتاجا، والحاجة أم المساوئ. أما ما ظل الناس يذكرونه ويتوقون إليه فهو الحياة الرعوية السابقة على الزراعة، والتي استمرت مع الزراعة. وهي حياة لا نصيب للثور فيها. بطلها الحمار وجماهيرها قطيع الخراف بقيادة راع عاشق، يبث أشواقه في ألحان شبابته فتأتيه عشيقته الراعية فيمرحان فوق الحقول الخضر. ولا وجود للثور والبقر في هذه اللوحة الرعوية التي غابت وعادت وما تزال تغيب وتعود في البلاغة الأدبية حتى أيامنا هذه، وتشدنا إلى تلك "الحياة المثالية" حلم كل فرد من البشر. ولا نعرف إن كانت المرحلة الرعوية قد استمرت طويلا أم كانت مرحلة قصيرة بالنسبة إلى المرحلة الزراعية التي ما زالت تشكيلتها قوية مستمرة إلى جانب التشكيلات الأخرى، وعلى الأخص التشكيلة التكنولوجية. ولكن الذي نعرفه أنها كانت مؤثرة جدا في كل الشعوب تقريبا، من الهند والصين ومصر والفرات وحتى اليونان. . . وهي تمثل اليوم "اليوتوبيا" الأدبية التي لها بلاغتها الخاصة، من مفردات وتراكيب ولوحات وخيال. . . وبطل هذه المرحلة هو الحمار والخروف. الثور لم يدخل اللوحة الرعوية إلا فيما بعد. إن راعي البقر يحتاج إلى حصان كما سوف نرى.
ولم تقتصر الرعويات على الشعر الغنائي، بل غزت الرواية والمسرحية. واستطاعت التأثير في الفكر الفلسفي. وهي وراء السؤال: هل ثمة خلاص للإنسان بغير الحياة البسيطة؟ ومع أن زمن الحمار والخروف ولى بعد قيام الصناعة ومزارع اللحوم، فإن عشاق الرعويات يعودون إلى تلك اللوحات الهادئة حيث المرج والأغنام والغدير والينبوع والشلال والصخور والزهور والأعشاب. والملاحظ أن هذه اللوحات لم تقبل الثور بل قبلت البقرة، كما لم تقبل الحمار، بل قبلت الخروف والأغنام أيضا. وإذا كانت محقة مع الثور فإنها مجحفة مع الحمار.
إن الحنين إلى الرعويات يمثل تلك المنطقة البريئة من النفس. بعض الشعراء خصوا هذا العصر بدواوين شعرية كاملة، مثل الشاعر الروماني فرجيل.
لكن الزراعة شيء آخر. إنها تعني دخول الملكية الخاصة وتقلص الحيازة العامة المشتركة. وبمجرد دخول الملكية الخاصة نتذكر السؤال السابق ونطرحه على الشكل التالي: هل يمكن خلاص الإنسان من شقائه ضمن علاقات الملكية الخاصة؟ إن مجرد دخول الملكية الخاصة يطرح بلاغة جديدة في الكلام البشري. إن هذا يعني ليس تطوير الملكية الشخصية (اقتناء الضروريات) بل تجاوز هذه الملكية، أي إحلال الملكية الخاصة التي لا تعرف حدودا ولا شبعا محل الملكية الشخصية، ملكية الضرورات.
* حنا عبود: (البلاغة من الابتهال إلى العولمة)
#حناعبود