يستمر الناقد حنا عبود في الحديث عن الحمار وتأثيره على بلاغة وثقافة الإنسان:
***
عهدُ هذا المحترم عهدُ سلام وأمن وطمأنينة. علم الإنسان كيف يقدم طاقته ويأخذ حاجته، بعيدا عن الطمع والاعتداء. قدم له الصدق والأمانة والإخلاص والتعاون والتسامح، فلم يحتفظ بها. في عصره لا يمكن الإقدام على سرقة حقل أو منزل أو ما شابه ذلك. لنتصور أن سارقا سطا على حقل وأخذ شيئا من مزروعاته على ظهر حماره. لا شك أنه غبي لأن في مقدور الصبيان أن يلحقوا به ولو سبقهم بساعات، وأن يستعيدوا ما سرقه، وأن ينزلوا الأذى به. في عصر الحمار لم تكن هناك سرقات. ربما تكون الأرض بمنتوجها الضخم الذي يزيد عن حاجة البشر هي السبب في "العفة" البشرية. ولكن على فرض أن غريزة السطو والغزو – وما أكثر غرائز الإنسان المنحطة – دفعت أحدهم إلى السرقة أو الاعتداء، فسيكون غبيا إن استخدم الحمار.
في العصر الحميري لا توجد حروب ولا غزوات، فلا وجود لأثر كتابي أو غير كتابي يشير إلى حرب الحمير. قد تكون هناك نزاعات ولكنها بسيطة وتحل بسرعة. إن الحمار لا يسمح أبدا بتشكيل الجيوش والفيالق، ولا بإثارة الفتن والحروب. كان يفرض بوداعته السلام على البشر.
إن هذا المخلوق المحترم معلم كبير للبشر. لولاه لما عرفوا معنى الصبر والهدوء والوداعة. . . وكثير من الصفات الأخرى التي نجدها في البلاغة الكلاسيكية والتي تعتبر من الصفات المثالية أي الخيالية. وحين يحقق البشر هذه الصفات يكونون من الصنف الراقي الرفيع المنزه ، لا يعرف الطمع والعدوان والخيلاء. . . الخ. هذه الصفات لا تظهر من البشر. إن الحمار وحده علم الإنسان هذه الصفات. وكانوا يطلقون قديما على الإنسان الذي تتوافر فيه هذه الصفات "الجحش". وللتفاؤل صاروا يطلقون هذه الصفة على الوليد كاسم يلازمه. وقد عرف الجحش كاسم علم وكصفة. كثيرون تسموا به. وقد استمر عند العرب حتى آخر خليفة في دولة بني أمية، فلقب بمروان الجحش أو الحمار مدحا لا هجاء، لصبره وعمله الدائب ليلا نهارا، ولجديته وترفعه عن الأعمال الدونية المؤذية أو العشوائية أو المسفّة. . .
هذه الصفات تعلمها الإنسان من الحمار ولكنها ظلت دخيلة عليه. قد يدعي حيازتها،ولكن التاريخ يثبت أن أصحابها من بني البشر لم يصلوا إلى مستوى الحمار من جهة، كما أنهم في الأزمات الحرجة كانوا يعودون إلى طبيعتهم العدوانية. إن جميع الحكماء والمفكرين والأديان والمذاهب والفلاسفة نادوا بهذه الصفات الراقية التي يمكن عليها أن تشاد أمتن العلاقات البشرية، وما برح العقلاء حتى اليوم ينادون بها. ومع ذلك لم يرق البشر إلى مستوى الحمار. لقد ظهر الثور والحصان بعد الحمار في صحبة الإنسان. ولكن لم يدع أحد من المفكرين والحكماء والأديان والفلاسفة إلى التحلي بصفاتهما. كل الصفات السامية مأخوذة من الحمار. وقد تكون حضارة الحمار محدودة وضيقة، ليس فيها بذخ ولا غرور ولا كبرياء. . . ولكنها حضارة وديعة تقوم على العمل والصدق والتأمل. إن اختيار المسيح للحمار لم يكن اختيارا عشوائيا. فلو بحث عن حيوان آخر يمثل الوداعة والرقة والهدوء والسلم. . . لما وجد غيره. إنه بطل الحضارة الهادئة. ولا يمكنه أن يقوم بتصنيع حضارة الصخب والعنف. لقد ترك ذلك للحصان.
استخدمه الإفريقيون منذ فجر التاريخ كما استخدمه السومريون (قبل أن يصبحوا أمة محاربة) وقد أظهرته الرسوم يجر العربات من الحقل إلى البيدر أو المنزل، وليس إلى ساحة القتال. ونظرا لصفاته النبيلة وابتعاده عن الأذى والشر والحشرية والتطفل. . . فقد استخدمته بمحبة كل شعوب الأرض تقريبا. لقد فشل الإنسان في الارتفاع إلى مستوى صفاته النبيلة.
* حنا عبود: (البلاغة من الابتهال إلى العولمة)
#حناعبود