لا أحد يشك في أن الاهتمام بالبلاغة وتحسين الكلام سببه مخاطبة العادي للفائق. مخاطبة إنسان لإنسان يصب في الكلام المتداول الذي لا يلفت النظر. لا بد من أن يخاطب من هو أسمى منه: إلها كان أو ملكا أو ملاكا أو أميرا أو قائدا. . . حتى يعتني بكلامه فتنشأ البلاغة.
وعندما يخاطب من هو أدنى منه: الشياطين والأبالسة والجن والمسوخ والأعداء. . . فإنه يمارس البلاغة الدونية. ومن البلاغة الرفيعة ظهرت الملاحم والمآسي والمسرحيات التراجيدية. . . ومن البلاغة الدونية ظهرت الهجاء والسخرية والمسرحيات الكوميدية. . . فما زاد عن الحد البشري يعطينا فخامة الكلام، وما نقص عنه يعطينا رخاوة الكلام. أما الكلام المتداول بين مخلوقين متساويين فإنه اللغة العادية التي تقل فيها البلاغة، والتي تركت للاستخدام في الحياة اليومية المحدودة جدا. ولكن حتى هذه المحدودية لا بد أن تشتمل على بلاغة، إلى هذه الدرجة أو تلك. فالحياة اليومية، مهما بدت بسيطة وسطحية، تلعب دورا خطيرا في صياغة اللغة والبلاغة.
البلاغة نظرة. وبحسب هذه النظرة تظهر الأنواع الأدبية، من مخاطبة الأعلى والأدنى. وأما الحياة الشخصية أو المنزلية فلها لغتها التي تندر فيها البلاغة، كقولنا أعطني الورقة والقلم. . . الخ
ولكن في الإطار العام للحياة اليومية لا يترك الإنسان الأشياء كلها في أماكنها بل يدفع ببعضها إلى العالم الفوقي، وببعضها الآخر إلى العالم السفلي، وإن كانت بنية الأشياء تبقى عادية.
تعتبر الطقوس الفصلية الإطار الأكبر للبلاغة. ولكننا سوف نبين فيما يلي أن المفردات الموجودة في العالم الأرضي ليست حيادية من جهة، كما أنها ساهمت في البلاغة من جهة ثانية. بعضها دفعه الإنسان إلى العالم الفوقي وبعضها دفعه إلى العالم السفلي، وبعضها جعله يجمع المتناقضات. وبذلك يصبح الواقعي خاضعا لسلطة الخيال، مثلما خضع الميثولوجي لهذه السلطة. وقام بهذه العملية لاعتقاده أن العالم الآخر، المشرق أوالمظلم هو الذي يسيطر عليه، فكم بالأحرى على أشيائه؟ ثم إن هذه العملية تبعد الرتابة عن الحياة اليومية وتقرب الأشياء من دائرة الخيال. إن بث الحياة في الأشياء يجعلها تتحرك وتشعر وتتفاعل، مما يكسر الرتابة اليومية القاتلة. وهذه وظيفة من أهم وظائف البلاغة المتعددة.
* حنا عبود: (البلاغة من الابتهال إلى العولمة)
#حناعبود